مشهد أول:
مراهق تونسي يعشق الرقص والتعبير عبر الجسد لا يتعدى من العمر خمسة عشرة عاما، يخطو خطواته الأولى تجاه احترف مبكر، كما يخطو بهمة تجاه رحلة داخلية، يتصالح عبرها مع شغفه في مجتمع يحكم على فن الرقص من منظور مثقل بأوزان الثقافة والمجتمع وتأطير الجسد ووظائفه. يطلب مخرج ومصمم العرض من الفتى أن يرتدي "فستانا"، كما يحتم سياق أحد المشاهد. في المقابل، يسأل الأهل في البيت الفتى، "المختلف" منذ طفولته، بحماسة عن موعد عرضه "المسرحي" (غالبا ما يفضل أهل كثر في المنطقة العربية أن يطلقوا على فن الرقص كلمة مسرح اذ هي تنزع صفة الالتباس وربما التحقير للرقص وتمنحه كما يظنون معنى أكمثر لياقة). يستحي الصبي من أن يراه أهله بـ"فستان". يهتدي الى حل متوقع للمأزق: يأتون الى مسرح "الفن الرابع". يسألون عن العرض بعد أن لاحظوا خلو مدخل المسرح من الناس. يتم اعلامهم أن العرض قد تم فعلا ولكن في وقت مختلف.
لقد فعلها المراهق، آنذاك، سليم بن صفية، وأعطى والديه موعدا خاطئا لأنه خجل من أن يعبر عن حرية الفن الكاملة على مرأى منهما.
مشهد ثاني: بعد مرور ما يوازي ربع قرن.
الأب يجلس في صفوف المشاهدين. ثمة أجساد تتحرك على المسرح لتعلن عن ملهاة ومأساة العيش والعمل في "كاباريه". الشخصيات مستلهمة من صفات حقيقية لساهرين وساهرات وعاملين وعاملات في ملهى في وسط العاصمة التونسية، تحديدا في شارع "هولاند"، يحمل اسم "بوتينيار". هناك، على الطرف الثاني من الشارع، في مقابل هذا المكان، عاش بن صفية لسنوات، واختزنت ذاكرته الكثير مما جسده في 2022 في هذا العمل الذي عرض في تونس كما فرنسا. على الخشبة، عبارات "غير لائقة" يسردها الممثلون، وأجساد تحكي، كما في لغة أهل الليل وسهر الحانات. لكن سليم، الرجل الذي بات الآن يدير مهرجانا عالميا للرقص الكوريغرافي في تونس، كما مؤسسة تعنى بتطوير آفاق الرقص المعاصر وأشكال أخرى، في المنطقة العربية انطلاقا من تونس، وعبر شراكات وبرامج تبادل عالمية، لم يكن ليخجل هذه المرة من أن يكون والده بين الحضور. لقد كانت الدعوة في تاريخها الحقيقي!
" نحن جيل من الشباب الذي سعى الى التغيير. تغيير نظرة المجتمع الى جسد الراقص بوصفه أمرا مستهجنا. ومواجهة حالة الانفصام في ثقافتنا التونسية والعربية المحبة بطبيعتها للرقص لكن في سياق من الخصوصية وربما السرية ولكن ليس العلنية. ما نعيشه اليوم، أفضل بكثير مما كان في السنين التي كنت فيها مراهقا"، يقول بن صفية في حوار خص به "الاستدامة بالعربي" من "زودياك ميديا"، وينشر مصورا بالفيديو ضمن سلسلة " مبدعون تونسيون تحت الضوء" في يوليو 2023.
يضيف:" الجسد التونسي لا يمكن فصله عن كل ما عشناه في تونس ولا نزال. السياسة والاقتصاد وحريات أساسية كلها تؤثر على هذا الجسد. تجبله. تطوره. تجعله ينضج. انه جسد مقاوم وليس لديه رفاهية أن يكونا جسدا للجسد في عروضات الفن للفن".
ويوضح:" الاختلاف بين جسد الراقص الأوروبي، على سبيل المثال، والتونسي، أن الأول بوسعه أن يغوص بتعبيرات عبر الرقص هدفها التعمق في معنى ووظائف وأدوات الجسد، بينما في حالتنا، الجسد غالبا ما يكون وسيطا لقول أشياء أكثر شمولا واتساعا".
على مسافة أمتار قليلة من المكان الذي جرى فيه اللقاء مع بن صفية، داخل ردهة فندق "أفريكا" في شارع "الحبيب بورقيبة"، كانت طفلة صغيرة تتنطط على الرصيف أمام شاشة عرض عملاقة، هي احدى مبادرات "أيام قرطاج الكوريغرافية" بدورتها الخامسة، في نقل العروضات الى الشارع. شاشة هي خلفية لعروضات حية تحصل أمام "المسرح البلدي"، أو على مسافة أبعد باتجاه الغرب ومنطقة "البحيرة"، أو حتى على مسافة أبعد من ذلك في الريف المسمى "فحص":" الكثير يقولون أن الجهات (المناطق بالتعبير التونسي) غير مستعدة لمشاهدة وهضم فن الرقص المعاصر وتقبله. هذا غير صحيح. ودوما علينا الا نخلص الى نتائج من دون اختبارات".
يعطي المدير الفني مثالا عن برنامج من العروضات الراقصة قامت به "مؤسسة البديل" التي أسسها ويديرها، وعم ولايات مختلفة، ويستذكر بشكل خاص "ولاية جندوبا" حين أثار عرض راقص انتباه أكثر من 30 من الحضور كانوا متسربلين في المشاهدة وطرحوا أسئلة كثيرة، من بينها على لسان الشباب:" هل الرقص بوسعه أن يكون مهنة؟".
يقول بن صفية أن هناك دعما من المؤسسة الرسمية في تونس لنشاط الرقص الكوريغرافي وهو ينضج عاما بعد عام ويثني على الموقف الرسمي في هذا السياق باعتبار "الرقص وسيلة من أجل مواجهة أفكار الهمجية والتحجر". ويضيف:" ليست الصورة زاهية تماما، ونحن لسنا على أفضل حال، لكننا عبر الرقص نقول للجميع أننا على الأقل.. مستمرون في المحاولة".
مشهد ثالث:
يقترب الأب من البنت التي تتقاقز على الرصيف. يحتضنها. يطبع قبلة على جبينها، وقد يهمس لها: تحبين الرقص. حسنا، سأدعمك لتحقيق أي شغف لديك!
( مقتطف من لقاء فيديو ينشر في يوليو 2023 مع سليم بن صفية المدير الفني لـ"أيام قرطاج الكوريغرافية" ضمن سلسلة تنتجها منصة "زودياك ميديا" لتسليط الضوء والاحتفاء بالابداع التونسي وتضم 10 لقاءات مصورة)