يتجمهر المتظاهرون أمام واجهة "المسرح البلدي" في "شارع بو رقيبة". يحملون صورا، يركز مراسل قناة "الحرة" الأميركية بشكل دقيق على تجوال عدسة كاميرته فوقها. يصرخ رجل في وسط حلقة المجموعة بصوت مبحوح أنه "من حقنا أن نقوم بهذه الوقفة الاحتجاجية". عناصر أمن تحيط بالمكان. في مواجهة المسرح، زمرة أخرى، أقل عددا، تجابه نداءات المجموعة الأولى، بنداءات مضادة لا تخلو من شتائم.
الغروب الذهبي يقترب من أن يرخي بغلالته فوق "الشارع الرمز" الذي تتفرع منه شوارع كثيرة، مثل روافد سخية لنهر عريض، تحمل اسماء دول وعواصم عدة، حتى تخال أن العالم كله موجود في هذه البقعة من العاصمة التونسية: البرتغال، أثينا، باريس، الجزائر، فلسطين.. وهو الشارع الذي يودي في أقصاه الى مدخل "المدينة التاريخية" أو كما يسميها التونسيون "المدينة العربي". على عتبتها، في مقابل كاتدرائية وقرب دبابة عسكرية، تغسل خيوط الشمس الحنونة في يوم حزيراني ماطر (لغرابة قصص التغير المناخي) وغائم تمثال يجسد "ابن خلدون" أحد رموز التاريخ الفكري السحيق لتونس، وقد حفرت على قاعدته عبارات، من بينها:" العدل أساس العمارة" و"الإنسان بطبيعته مدني".
وقفة متكررة
تتواصل الشتائم من الزمرة، التي تبدو غاضبة غضب المكلومين، ولا تتوقف الطاقة الجامحة للمجموعة على أدراج المسرح العريق، الذي اعتلى درجاته مئات المفكرين والفنانين طوال تاريخ مديد، من بينهم، خلال حفل كرمه في ستينيات القرن الماضي، الفيلسوف والمفكر اللبناني ميخائيل نعيمة، الذي كان يتأمل كثيرا ويصرخ قليلا.
أسراب تشبه السنونو، تحلق فوق الجميع، ترقص رقصة المساء، ولا تبدو مكترثة لما يحدث في الشارع. فهي أيضا، عبر سلالات غير منقطعة، لها "وقفات متكررة"، في المكان ذاته.
موجات
على مسافة دقائق بالسيارة، تتحضر حشود مختلفة من الراقصات والراقصين، التونسيين والفرنسيين، لتركيز مواقع لأبدانها على خشبة "مسرح الأوبرا" في عرض افتتاحي للدورة الخامسة من "أيام قرطاج الكوريغرافية" التي تعنى بعرض وتطوير ومأسسة مؤسسة الرقص في تونس. يحمل العرض اسما ملفتا هو "أرخبيل" حيث يتحرك الراقصون لمدة 45 دقيقة في موجات جماعية، لا تلبس أن تنقسم الى مجوعات أصغر، فأصغر، كما لم أن أرضا واحدة في الأساس، انقسمت الى جزر أصغر، لتكون أرخبيلا طافيا، ما يلبث أن يجتمع مجددا.
العرض الذي كانت وراءه سيدتان مشهود لهما بالمعرفة والحرفة والنشاط، هما الراقصتان، في الأساس، الفرنسية ماتيلد مونييه والتونسية مصممة الرقص والمسؤولة ملاك السباعي، قدمت له وزيرة الشؤون الثقافية الدكتورة حياة القرمازي، بكلمة، ختمتها بحماسة لافتة أشبه بتعهد رسمي:" يحيا الرقص ضد ثقافة الموت. بالفن نحيا، ونحارب التحجر الفكري والغلو.. مرحبا بعشاق ثقافة الحياة".
تعاون ملفت
يغمر الضوء المكان. أنغام مشرقية تسربت الى ايقاعات التكنو التي صاحبت لوحة عبرت فيها المجموعة عن الضيق بثقافة المدنية العصرية التي تخنق روح الإنسان وتحوله الى آلة. تلك غير مدنية ابن خلدون التي حرضت على النماء والتواصل والازدهار وعلو الروح. ثم لوحة أخرى تظهر تلاقحا ملفتا بين طريقة خطوات الراقص تبعا للمدرسة الفرنسية وبين ما قدمه زملاؤهم التونسيون على الضفة الأخرى للمتوسط.
وبخلاف عناصر قليلة في العرض، بدت بحاجة الى "تحشيد" أكبر، لطاقتها عبر التدريب، أو زرع عناصر مختلفة تنزع عن العرض الأرخيبالي صفة التجريدية وتجعله أقرب الى الجمهور غير المتخصص من "عشاق الحياة"، فإنه لا يمكن الا التعبير عن الاعجاب بهذه التجربة التشاركية بين راقصين ينتمون الى مؤسستين لهما باع راسخ في مجال الرقص والثقافة ككل.
اذ انه ثمرة أكثر من ستة أشهر من برامج الإقامة والتبادل الفني بين العاصمة تونس والعاصمة باريس، انتهت مايو 2023 بسفر 16 راقصًا من جهة الباليه وفنون الرقص تحت إدارة "مسرح أوبرا تونس"، برفقة المديرة الفنية للرقص ومصممة الرقصات ملاك السباعي، إلى باريس، قبل ان تبدأ سلسلة من العروضات، أوصلت الى عرض 10 يونيو في افتتاح "الأيام" في تونس.
مشروع غير مسبوق
يعد "أرخبيل"، مشروعا غير مسبوق في التصميم الكوريغرافي، لجهة التعاون الثقافي بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط ، تنفذه ثلاثة هياكل رئيسية: مسرح أوبرا تونس ، والمعهد الوطني للموسيقى والرقص في باريس والمعهد الفرنسي في تونس.
تم بناء "أرخبيل" على أربع مراحل من الإنشاء (أو التفكيك ان جازت المقاربة الفنية كون التفكيك ضرورة أولية لاعادة الانسجام) منذ ديسمبر 2022 في تونس.
تم تكليف ماتيلد مونييه بوضع السينوغرافيا وهي تعتبر مرجعًا على مشهد الرقص الفرنسي والعالمي المعاصر. ابتكرت خلال مهنتها أكثر من 40 قطعة رقص، قدمت في العروضات الدولية الرئيسية لمهرجان "أفينيون"، كذلك في مسرح "تياتر دي لا فيل" في باريس ، مروراً بنيويورك وفيينا وبرلين ولندن، وحصلت على العديد من الجوائز لأعمالها.
"أرخبيل" هو المشروع الأول الذي تتعامل فيه مونييه مع تونس، حيث تعاونت مع جهة "الباليه"، بإدارة ملاك السباعي، وهي أول راقصة تونسية تنضم إلى المعهد الوطني للموسيقى والرقص في باريس ، بعد فترة تدريب في أوبرا باريس، وهي أيضا عضوة في DBM - Danse Bassin Méditerranée network ، ويعود لجهودها فضل كبير في ولادة وتقوية روابط عائلة الرقص في تونس وأيضا العالم العربي.
الرقص راسخا
الجدير ذكره أنه، تم إنشاء المعهد الوطني للموسيقى والرقص في باريس عام 1795 ، وهو أول مؤسسة عامة فرنسية لنقل الفنون الموسيقية والرقصية. وتعتبر شراكاتها الدولية العديدة وسمعة أساتذتها وطلابها السابقين تجعلها معيارًا دوليًا.
أما مسرح الأوبرا في تونس، فقد نجح بعد سنوات قليلة فقط من إنشائه ، في ممارسة قوة جذب قوية على القطاع التونسي بأكمله للفنون الأدائية ، فقد دعا العديد من مصممي الرقصات المشهورين للمشاركة مع الفنانين التونسيين ، موهبتهم ومعرفتهم من خلال التعاون مع Ballet of the Opera إما في إبداعات أو ورش عمل ودروس رئيسية. من بينهم الإيطالي لوكا بروني ، والفرنسي إميليو كالكاجنو ، وهلا فاتومي، ورشيد أورامدان، وسيدريك أندريو، والسويسري نيكولاس كانتيلون، والياباني نوريو أوشيدا.
في نهاية الليلة، تعود كل الحشود الى بيوتها: المتظاهرون، الصائبون وأصحاب الخطايا، الصارخون الهامسون، الشاتمون والمتأملون، عشاق الفن، الراقصون المنهون لكن المبتهجين، وتعرف السنونوات أعشاشها جيدا لكي تختفي لساعات ثم تعود محتفية بيوم جديد، راقصة فوق "شارع بو رقيبة".. رقصة "الأرخبيل"!