هناك حصان مجنح محفور رسمه على صخرة في "توبربو ماجوس".
يحتاج حفظ اسم المكان الأثري الذي يبعد عن العاصمة التونسية 60 كيلومترا الى كثير من التدريب. "توبور ماجوس".. "توربو ماجوس". هناك دوما مجال للخطـأ في ترتيب الحروف.
لعل أنحاء القرية التي تسمى "الفحص"، في المكان ذاته من ولاية زغوان التونسية، هو تعبير أسهل للاستدلال والتذكر.
لكن قبل هذا وذلك، ستظل ثلاثة مشاهد، هي المتصدرة بشكل لصيق، في ذاكرتي للمكان الذي ارتحلنا اليه من "شارع بو رقيبة" في وسط تونس، داخل حافلة تابعة لـ"أيام قرطاج الكوريغرافية".
جمهور نابه
المشهد الأول تناطح راقصين هما "أريستيد وباستيان"، مثل ثورين هائجين، يريد أحدهما أن يفوز بغنيمة (ربما أنثى) فيستعدي الآخر رغبا بالجائزة.
حدث هذا في مقتبل عرض عائشة مبارك وحفيظ ضو، الذي حمل اسم الراقصين أنفسهما، وتم تقديمه على مسرح "الفحص"، وسط أطلال مدهشة وشبه مكتملة لمدينة شيدت قبل عصر الرومان، الذين حفزوا ازدهارها بدءا من القرن الرابع، حتى باتت "جمهورية" بحد ذاتها. الراقصان يعبران بالجسد عن المعركة، بينما رجل عجوز، من أهل القرية، أخذ مكانه بين المشاهدين، يتكىء عل عصا، والى جانبه مشهد ثالث لطفل بنظارة، تخفي عينين نابهتين لعمر لم يتعد السابعة، بدا مستلبا لا ترمش عيناه المثبتتان على المسرح أبدا!
ربما جال في باله أن الشابين يتعاركان، تماما كما يحدث في الألعاب الاكترونية، التي يتسلى بها.
هضبة المدينة
وراء المسرح وفي مقابل الجمهور، الذي ضم نساء ورجال واطفال من مختلف الأعمار وفدوا من القرية والانحاء المحيطة، أعمدة رخامية باسقة تعلن عن تاريخ فخم لهذه المدينة التي تعرت من تحت حقبات التاريخ الغابر لتكشف، حتى يومنا، عن ثلث مساحتها الاصلية فقط. فيما اتساع رقعتها الشاملة، يجعلها أحد أكبر المواقع التاريخية الأثرية في تونس كلها، وان كانت أعمال التنقيب توقفت لسنوات لأسباب عدة من بينها ظروف البلاد السياسية والاقتصادية التي تعيق الغوص في الماضي، على الرغم من فائدته الكبيرة لتنويع المنتج السياحي.
وراء الأعمدة هضبة، تعتليها شجرات زيتون ثم، انحدارا، تقع بقايا معصرة الزيتون التاريخية الخاصة بالمدينة، والتي سماها المنقبون المكتشفون باسم "الحيوانات المقيدة". هذا اسم استمد من أشكال وزخارف الحيوانات التي رسمت على موازييك، مبهر لشدة حالة الاكتمال التي وجد عليها، رغم مرور مئات السنين من نحتها، وقد جسد أشكال حيوانات في تلك الوضعيات.
"الثوران" مقيدان بالرغبة. يتحاوران في دوائر. يتقاربان لوهلة ويتنافران أكثر. يتفرقان ويتحدان. يحتضنان رغبتهما المشتركة، أو يجعل كل واحد منها "نارا" تحرق الآخر.
"شطحة"
ضو ومبارك، الكوريغرافيان التونسيان، اللذان أسسا تجربتهما الدولية في فرنسا بدءا من العام 2004 عبر شركة "شطحة" (تعني رقصة باللهجة التونسية)، يهتمان في العادة، بملائمة هوية الراقص مع تكنيك حركته.
تصبح شجرة الزيتون، كتلك التي تعتلي الهضبة، تشبيها معياريا يستخدمه ضو، من أجل أن يصف لي، الفارق بين العمل مع راقص ينتمي الى الشرق، وآخر ينتمي الى الغرب:" ليس الأمر واحدا بكل تأكيد. الراقص الرجل،عندنا، يرقص بهيئة، تشبه مثلا، شجرة الزيتون. ثابت ومتجذر بذراعين "محلولتين". بينما المرأة تزخرف حركتها. الراقص الغربي يهتم بالتكنيك ويقدمه على الاحساس، بعكس الراقص عندنا، سواء في العالم المشرقي والمغاربي، الذي يتعلم منذ صغره بأن الاحساس هو الأساس".
يشرح ضو في حواره مع موقع "الاستدامة بالعربي" من "زودياك ميديا"، والذي ينشر كاملا بنسخته المصوّرة، في يوليو 2023، ضمن سلسة توثق وجوها ابداعية من تونس.
لسنا آلات
تدور أفكار في عقل الطفل المشاهد، وليد زمن الألعاب الالكترونية، عن سر حركات الشابين الراقصين وتمثلاتها.
يواصل حفيظ أن ما يميز "رقصنا هو أنه يبعدنا عن فكرة أننا نشبه الآلات، ويردنا، بخلاف الالتزام بالمثالية المطلقة وتقييد حركة الجسد، الى طبيعية لا تخلو من أخطاء، غير أنها ضرورية لأن من الخطأ يكون التعلم".
يفرق الكوريغرافي التونسي، الذي اختير مع زوجته عائشة مبارك قبل عشر سنوات ليكونا المديرين الفنيين لتظاهرة "تونس عاصمة الرقص"، بين المكونات البدائية التي تؤثر على شكل جسم الراقص الشرقي وتلك التي تنحت الجسد الأوروبي، ويذهب الى أقصى حدود التفسير مفترضا ان العناصر الغذائية قد تكون من المؤثرات التي تجعل طريقة الرقص في كلتا الحالتين تختلف.
أما "حين يلتقي الشرق والغرب، في عرض واحد، كما حصل في عرض الافتتاح الذي جمع راقصين تونسيين وفرنسيين، يبحث كل منهما عن شيء مختلف، وان بديا منسجمين في شكل الاداء. يشترك الجمهور نفسه في تكوين هكذا عرض وجبله، اذ هو الطرف الثالث في الحوار ولعله الأول. هذا الحوار هو في صلب معنى الفن. قبول الاختلاف والاحتفاء به، ولكن ضمن شكل الند للند من دون اية احالات عامودية في العلاقة".
(في الحوار المصور الكامل الذي يعرض على منصة "زودياك ميديا" تابعوا، لاحقا، اجابات ضو عن اسئلة التقييم والتنميط لأشكال الرقص وعلاقتها بأفكار الاستعمار وما بعده).
احساس عارم
"يعصر" الشابان عرقا يزخ من فرط الحركة. الطفل مستلب لا يتحرك، لكن عيناه لها أجنحة من خيال محلق. يبدو في جموده أشبه الى لوحة الحصان المجنح المحفورة على القطعة الأثرية. العجوز لعله يتذكر "خرافات" عن "عصر القوة". الأنوار تشتعل. يصفق الجمهور. ثمة جسدان غير "شرقيين" رقصا، في "توبرو ماجوس" الرومانية، باحساس عارم يميز روح الرقص لدى ضو.
ها هو الكوريغرافي التونسي، بعد سنوات من مواصل البحث والممارسةـ قد قلب المعادلة وحول رجلين من سلالة "أساطير" روما الى.. زيتونة متوسطية!