لا تتحسس عصاه البلاط. طرفها يكاد يلمس الرخام. لا يحتاج الضرير الى ارشاد. يعرف جيدا كيف يتدبر السير في كل شبر من فناء الدار العتيقة التي إن شرّعت أبوابها لزوار مخصوصين فقط، انبلج وجه الظلال الناعسة التي تحرس.. الأضرحة.
"مرحبا، هذا ضريح عزيزة عثمانة".
تحت القبة مشغولات هندسية بارعة الدقة بالجبس والخزف تشبه تطاريز على فتسان دانتيل منسوج بعناية، وعند كعب الجدران كسوة ناعمة ومزخرفة كأنها كواحل أميرة مدللة حفت بنضارة أعشاب برية.
ثمة قماش حريري ناعم أخضر، كما لون القلوب المليئة بالخير، ينسدل على صناديق متطاولة.
قلب وجل
في "زنقة الشماعية" حيث يرقد "سيدي بن عروس" في المدنية العتيقة في داخل تونس، عليك، وأنت تتقدم الى ما خلف الأبواب التي تخفي الأضرحة، أن تتحلى بقلب رقيق كريشة، متخفف كمثقال ذرة، لا يحفه الوجل، مثل عصا ضرير لا تحف الرخام.
وهكذا أيضا كان قلب "أميرة الفقراء" عزيزة عثمانة التي ولدت في هذا الدار قبل أكثر من 400 سنة وعاشت 70 عاما أمضتها في مساندة المعوزين بالخبز والضوء والعلم.
حبست سليلة الداي عثمان ممتلكاتها الكثيرة كأوقاف لا تزال الى اليوم تلعب دورا اقتصاديا حيويا في فضاء المدينة العتيقة وحياة الكثير من الناس. عطر خيرها المديد عبر الأزمنة فواح، تعكسه باقات زهور لم تختف طوال قرون من على ضريحها والأضرحة المحيطة بها. تلك كانت وصيتها الوحيدة، بعد أن حبست كل ممتلكاتها من عقارات وحوانيت وأراض للفقراء.
لأن قلبي في ذلك اليوم كان مستوفيا لميثاق الظلال، لم تنزعج من نفاذي عبر باب الضريح، بل لفتني بغلالة من سكينة، لا يقل جمال تطريزها الروحاني عن جمال تطريز القبة الهندسي.
لقاء صباحي
وكافأتني ظلال ضريح "أميرة الفقراء" بهدية لم أكن أتوقعها.
لقد وضعت في طريقي لقاء، بعد ساعات، مع امرأة قلبها له ذات الطرزة المشغول بها قلب الأميرة، وهي، رغم أنها تحيا بعدها بقرون عدة، لكنها على مسافة أمتار قليلة من الضريح، تتنقل بين بيتين أحدهما شيد في القرن الخامس عشر والثاني في الثامن عشر، تشرف على إدارة أنبل ظواهر السياحة الثقافية والدمج المجتمعي وتمكين أهل المدينة العتيقة. هي.. ليلى بن قاسم.
على سطح "دار بن قاسم " في باكر الصباح، وفيما الأزقة تستعد لاستقبال الخبازين وبائعي الرايات وناثري رذاذ المياه على غلال الفاكهة والخضار وباعثي ذكر لله عبر مذياع الراديو القديم، تحدثت الي بن قاسم عن "أميرة الفقراء"، وبدت، عبر نظرات عينين عميقتين تختزنان الكثير من الرغبة الحارقة بمساعدة كل انسان بـجناح خفيض، كأنها تجسيد حي لروح قديمة، جالستني.
عائلة منسجمة
حوّلت بن قاسم الدارين العتيقين، الذين يضمان 15 غرفة، إلى بيتي ضيافة. بعد تجربة طويلة، قضتها في بلاد متعددة تتعلم وتعمل في مجال سياسات الدمج الثقافي والاجتماعي، وجدت في مشروعها في قلب المدينة العتيقة في تونس، مختبرها الانساني الحيوي لابتكار وتنفيذ أفكار مختلفة عن التعاضد الاجتماعي. في البيتين تعرض بن قاسم تاريخا ماديا وغير مادي لتونس بشكل سلسل. السيراميك والجبس وفخار نابل وخطوط القيروان والطريزة، جنبا الى جنب مع مهارات وروح ضيافة الشخصية التونسية التي تعيش في أحياء المدينة العتيقة نفسها.
الشبّان الذين يعملون في بهو الدارين يتصرفون في البيت وكأنهم ولدوا فيه منذ قرون! كأنهم أرواح متصلة مع من سكن من سلالات سابقة في فضاءات تلك الغرف البديعة. نساء الحين "يطيبن" المذاقات. مكانهن ليس في المطبخ فقط، فهن أيضا على مقاعد الصالة التي تحتضن ندوات تتحدث عن الوجه النسوي للمدينة العتيقة. وجه مغفل عادة "لأن التاريخ يكتبه رجال"، كما تقول بن قاسم، ولأن "المرأة في فضاء المدينة العتيقة تبدو كعابرة أو متفرجة وليست مستخدمة حيوية لهذا الفضاء"، وهو ما تسعى سيدة الدارين لتغييره.
فخار نابل
ليس "دار بن قاسم" و"دار بن قاسم كاهية" مجرد بيتين آخرين للضيافة، بل هما، اذا مؤسستان اجتماعيتان، لهما أهداف واضحة تتمركز حول اعطاء وجه "سعيد" وثري بتنوعه لمدينة عتيقة، وخلق فرص الاقتصاد الدائري الذي يتيح انتفاع سكان الأحياء من مشاريع ربحية على مسافة أمتار قليلة من الأماكن التي ولدوا وعاشوا وتربوا فيها.
الكثير من الساعات معروضة الى جانب أواني الفخار النابلية، التي جمعها واقتناها على مدى سنين طويلة والد ليلى، وحفظ بذلك ارثا لمهنة يتعرض ازدهارها الى ضغوط شتى، وهي لربما ساعات ترمز الى علاقة بن قاسم بمفهوم الزمن:" اجد نفسي متصلة بعزيزة عثمان. تلهمني. كانت امرأة عظيمة واود أن أسير على خطاها".
وهكذا كان، تستثمر ليلى بن قاسم ارباحها من داري الضيافة لخلق مساحات وفضاءات جديدة في المكانين وأماكن أخرى تنفع الشباب والنساء وفئات أخرى تحتاج الى دعم. فعلت ذلك لعشر سنوات بدءا من 2013 سنة افتتاح الدار الأول واستقرارها في تونس، وهي مستمرة كل يوم بالتفكير بطرق من اجل عدم انقطاع هذه الرسالة.
باقة الزهور على ضريح الخير لا تذوي أبدا. في أزقة تونس العتيقة ارواح نساء عظيمات.. متصلة!