ظلال في المكان. بين أوراق الأشجار الكثيفة في الحديقة. تحت قناطر الردهة. في الزوايا الكثيرة التي تنعس فيها تحف ومقتينات فنية تروي قصة بيت عمره أكثر من 130 عاما. على أسطح اللوحات التي منها ما يصور تونس ومنها ما يأخذ الناظر الى خيالات وأحاسيس بحر المتوسط، بحر الحضارات، وتاريخ تونس، المشع بألق الفكر والمعرفة والضوء. الكثير من الضوء الذي بدوره، يخلق كثيرا من الظلال.
نور وسكينة
وبين النور وسكينة الظل، تتأرجح ابتسامة سونيا بن جمعة، "سيدة الدار". امرأة من جزيرة جربة، عاشت منذ طفولتها في "المرسى"، أحد رئات تونس الفاخرة على المتوسط، وفصل من فصول تاريخها البورجوازي. هنا، والى اليوم، مقر السفراء والفنانون ونخبة المجتمع ورجال الأعمال ذوي "المال العتيق" والأثرياء الجدد والعائلات الأصيلة والنازحون وشباب الجامعات يعيشون جنبا الى جنب في أحياء يلفها سحر الضوء وتنعشها ومضات من حكايات التاريخ المجيد.
زمن النوستالجيا
النوستالجيا، مسألة شائكة، وتحديدا في تونس التي شهدت حقبات من تاريخها، كان بوسع الانجذاب الى "الضوء" خلالها أن يكون معبرا الى استشراق لا ينفصل عن الفعل الاستعماري. من جهة أخرى، لا يمكن نكران التأثير الثقافي الذي خلفه الفرنسيون ومعهم الايطاليون وغيرهم من الاجانب على كثير من مظاهر الحياة في تونس، ولاسيما أحياء مثل "المرسى" شكل الأجانب، ذات زمن، غالبية سكانه.
من القلب
لكن سونيا وجدت، كما دوما، معادلتها الخاصة: انها تحب تونس وأهلها في كل الأزمنة والحقبات، بكل أشكالهم وانتماءاتهم وعقائدهم، وهي، مثل ظلال بيتها الذي أطلقت عليه اسم "دار المرسى كوب"، لتستقبل فيه الزوار من مختلف أنحاء العالم، ناعمة ومريحة والتحدث اليها معد بطاقة سكون وسلام وايجابية. بفستان مزين بالحروف العربية، تروي لـ" موقع الاستدامة بالعربي"، قصة الدار الذي كانت طفلة صغيرة حين طلبت من والدها بعد ان اشتراه أن "يصنع لها فيه مطعما:" لا أدري وانا ابنة السبع سنوات ما الذي دفعني لكي أطلب ذلك. ربما هو حس ضيافة فطري موجود في داخلي منذ الصغر".
مواسم الفرح
كبرت بن جمعة وتزوجت في الدار نفسه الذي اشتراه أهلها في العام 1983 من قاطنته الأخيرة جنين وزوجها جول وهي أخت المعماري التونسي الفرنسي الشهير كليمونت كاغوب الذي ترك بصماته على مبان كثيرة في تونس مثل قصر الرئاسة وفندق أفريكا وغيرها الكثير، اضافة الى تصميماته في دول أفريقيا وفي فرنسا ودول العالم. قام المهندس المعروف بتوسيع الدار وجعل لكل غرفة من غرفها الخمسة حماما خاصا بها وردهة استراحة:" وكأنه كان يحضر الدار ليكون دار ضيافة بعد سنين".
لسنوات، استغل البيت كبيت صيفي للعائلة:" كان عددنا يصل في بعض المواسم الى ثلاثين. نفرح، نطبخ، نذهب الى البحر، نغني، نشتري الحلويات والخبز من جيراننا، ولا ننسى أن نوشوش قواقع البحر لكي نستطلع طالعنا"، تتذكر بن جمعة.
كهف السلام
وابتداء من العام 2010 حولت سونيا الدار الى بيت ضيافة، والى جانب السواح التقليديين الذين يستقبلهم الدار، فهو يجذب أيضا أهل الفكر والفن والابداع، الذين وجدوا في "دار المرسى كوب" كهفا نابضا بالحياة الهانئة، "يختفون" في داخله، لشحن طاقاتهم الابداعية، من دون أن ينأوا بأنفسهم عن عصب المدينة وشاطئها ومقاهيها ومطاعمها، وهي جميعها على مرمى خطوات خارج دار الضيافة. وفي حال لم يرغبوا بالخروج، فإن "آمال"، صديقة سونيا منذ زمن الطفلة، والمشرفة على تأمين راحة النزلاء مع فريق متمكن من النساء، جاهزة لتحضير مائدة فطور لا يخلو من مذاقات وروائح الطعام التونسي الشهي. تذكروا ان تسألوا آمال في الصباح عن أسرار عجينة القمح والحمص والكركم والمكسرات وزيت الزيتون المسماة "بسيسة" والتي تمنح طاقة وحيوية لكامل النهار.
أيضا استفادت سيدة البيت من وصفات أمها ونقلتها الى موائد طعام ضيوفها:" مطعمنا الجربي ثري جدا. هناك بعض الأطباق مثل المسفوف نالت شهرة أوسع في السنوات الأخيرة، بعدما كانت حكرا على التحضير في البيت، وقد تعلمت وصفتها من أمي".
حولت سونيا البيت الى مقصد جذاب لمحبي السياحة البديلة والاقامات ذات الطبيعة المختلفة التي تترك ذكريات ذات روح ورائحة وملمس وظل وضوء:" كل واحد يلقى حظو في الدار"، تقول، مع ابتسامة طالعة من القلب.
بساطة أنيقة
ديكورات البيت تمكنت، من دون ادعاء ولا ضآلة، أن تجمع برقي بسيط بين روح البيوت التونسية العريقة وحداثة الأثاث والتفاصيل المعاصرة. وبالامكان أن تتجاور حجرة ذات نوافذ ملونة وأسقف مزخرفة وخزف موقع باسم "الأخوان شملان" مع غرف نوم، تفترش أسرتها أغطية ذات تصميمات حديثة. كذلك، بالامكان زيارة سطح الدار والاستراحة على مقاعد "مودرن" لتأمل منظر البحر والأشجار العتيقة المحيطة بالمكان. حوض سباحة؟ أشبه الى بركة في بيت أندلسي عتيق، متوفرة في الحديقة التي يتمدد على رخامها المنعش زوار يربحون دفء الشمس وسط واحة الظلال.
مشاركة السعادة
على مدى أكثر من 10 سنوات منذ افتتاحه، عشية "ثورة تونس"، وعبورا بمحطات شائكة ليس أقلها وباء كورونا و"عشري تونس" ذات التحديات الاقتصادية والسياسية، تمكن هذا الدار، تحميه ايجابية سونيا وتفاني فريقه النسائي من الصمود، بل التجدد باستمرار، وفتح الباب الأصفر الخشبي التونسي القليدي، لزوار من أسواق جديدة، ولآخرين يعتبرون الدار بيتهم. مازحني أحدهم، وهو من ألمانيا يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، بالقول:" أرجوك ألا تذهب بعيدا في نشر الدعاية للمكان، نريده أن يظل دوما كهفنا السري الآمن. آور هيدن جام".
ولكن هل يحتاج "دار المرسى كوب"، في الأساس الى دعاية؟ فالمحبة لا تعلن عن ذاتها. وبيت سونيا بن جمعة، بالتأكيد.. بيت محبة!
تقول بن جمعة:" هذه الدار كبرت فيها ورأيت فيها أشياء كثيرة رائعة ولم أرغب بالاحتفاظ بهذا الجو لي وحدي لأن.. السعادة تكثر وقت نشاركها مع الناس".